• الشّباب أبناء الزّمان, كيف ترى؟
    أنس مسعودي الإندونيسي

    مقدّمة
    الحمد لله الذي أشبّنا إلى شبيبتنا, والذي شبّب الدّين بروح تديّن شبابنا. والصّلاة والسّلام على سيّدنا محمّد المشبوب خير شبيبة شبّاننا وعلى أله و أصحابه الذين أرشدونا إلى خير مسلك شبيبة نبيّنا والتّابعين لهم بإحسان إلى يوم بعثنا, أمّا بعد
    حقيقة هذا الموضوع الذي يعني قضيّة الشّباب, قد سبق بحثه ونقاشه منذ السّنوات الماضيّة وما زال يستمرّ حتّى الآن وإلى يوم لا يوجد بعده يوم آخر, غير أنّ الموضوعات متنوّعة مختلفة, فمنها تحت عنوان "تحصين الشبا ب من الغزو الفكريّ"-"الشّباب والغزو الفكريّ و الثقافيّ"-"الشّباب وبناء المستقبل" و غيرها. والموضوع الذي أمامنا هذا يخصّ حديثَنا حول الشّباب و تحدّيات زمانهم, أي الزّمان الذي يعيشون فيه. والشّباب جزء من الإنسان, فإنّ الإنسان في مراحل حياته ينقسم إلى خمس مراحل؛ مرحلة بين (0- 12 سنة), وسمّيت بمرحلة الخشب الشجريّ؛ لإنّ فيها عنصرا مثلَ الخشب, ينمو فيها الطفل بالسرعة, ومرحلة بين (12 – 24 سنة) وسمّيت بمرحلة النّار؛ لأنّ فيها عنصرا مثل عنصر النّار تتلهّب فيها النّفس, ومرحلة بين (24 – 36 سنة) وسمّيت بمرحلة الأرض؛ لأنّ فيها عنصرا مثل عنصر الأرض, تجد فيها الّنفس الاطمئنان, ومرحلة بين (36 – 48 سنة) وسمّيت بمرحلة الحديد/النّحاس؛ لأنّ فيها عنصرا مثل عنصر الحديد, ترتكز فيها الفكرة في اقتصاد الحياة, ومرحلة بين (48 – 60 سنة) فما فوق, وسمّيت بمرحلة الماء؛ لأنّ فيها عنصرا مثل عنصر الماء, تجد فيها الّنفس راحة و وقارا1.
    ويراد من هذا الموضوع هنا أنّ الشّباب ـبل معظم النّاس- يرغبون في أخذ ما يعتبر جديدا معاصرا حديثا من الملابس, والتقاليد, والمعلومات, والحضارات, والثقافات, والتعاليم, والمفاهيم وما إلى ذلك ممّا يتعلّق بحياتهم, و حتّى العقائد, ويرغبون في ترك ما يعتبر قديما سالفا متخلّّفا من ذلك. فإنّهم –بعضهم- يظنّون أنّهم أبناء الزّمان, فكلّ ما يأتي به الزّمان –وهو كأنّه يعتبرون أنّه أبوهم- محدَثا مجدَّدا من خير و شرّ من مظاهر الحياة يأخذونه. وليس ذلك من العيب, إلاّ أنّنا –الشّباب- يستحسن أن ننظر إلى ما فيه خيرمن ذلك ومنافع لنا لأنفسنا وحدها أولنا ولغيرنا, فنأخذه ونعمله حتّى تعمّ منفعته للآخرين, وإلى ما فيه شرّ و ضرر فنتركه ونجنّبه عن حياتنا. وهكذا ... فكيف ترى؟
    فمن الشّباب من يأخذون تلك مظاهر الحياة المذكورة دون تفكير عن منافعها و ضررها متصوّرين في أذهانهم أنّ رجلا يستخدم شيئا معاصرا يعتبر رجلا معاصرا متقدّما, فافتخروا بما ادّعَوْا واعترفوا, مع أنّ الآخرين قد لايعتبرون أنّ المدّعي رجلا معاصرا غيرُ معاصر. ولقد أحسن من قا ل ف: كلّ خير في اتّباع من سلف # وكلّ شرّ في اتّباع من خلف
    2
    ومنهم من يأخذونها نظرا إلى منافعها و مضرّاتها فيأخذون ما ينفعهم ويتركون ما يضرّهم, و منهم من يأخذونها على أساس مجرّد
    الاستمتاع بها ولا يبالون هل المأخوذ يضرّهم بل غيرهم أو ينفعهم إيّاهم و غيرهم. وذلك عندما قلنا "إنّ الشّباب أبناء الزّمان" فكأ نّنا جعلنا الّزّمان "أباً" لهم, له دور الأبوّة وحقوقه التي يجب عليهم تنفيذها له.
    قال أرسطوطاليس في "الطّبيعة" "كلّ متحرّك فمتحرّك بمحرّك"3, أي كلّ متحرّك فحركاته يحرّّكها محرّك. وكذلك الشّباب, فإنّ حركاتهم جسدا أو فكرة أو ذهنا يحرّّكها محرّك ويؤثّر فيها. وأكبر محرّّكات تأثيرا لحركاتهم هو أقربها لأذهانهم و ضمائرهم منزلة ومكانة. ومن الطبيعيّ أن يتابع ويحاكي الأبناء ما فعله آباؤهم أيّا كان فعلهم وعملهم, حتّى بلغ في سماعنا "أنّ الولد مرآة الوالد" وقول الشّاعر وينشــأ ناشئ الفتيــان منــــّا # على ما كـــان عــوّده أبــــــــــــــــوه4
    والشّباب في مراحل دراستهم ونموّ حياتهم كالنبتة عند الفلاّح في مراحل نموّه، في حاجة إلى حماية عقولهم من كلّ فكر وافد، وتحصين أفئدتهم عن مواجهة ما أفسد المجتمع وأبعد هم عن الإسلام وتعاليمه من فكر سيّئ، وشبهات يغترّ بها قليلو الإدراك. وهم سيتحمّلون عن قريب مسئوليّة كبيرة في مجتماعتهم تعليما وتربيّة وأمرا و نهيا ، وتصريفَ أمور الأمّة أخذا وعطاء وتوجيها وتخطيطا.
    ولذا أنّ الشّباب و حماية عقولهم في مراحل حياتهم في حاجة أكبر إلى جهود وأعمال تعينهم على توضيح حسن المآخذ، وتمييز كلّ فكر وافد وإدراك أبعاده حتىّ تتحصّن أفئدتهم، كما يتحصّن الجسم باللقاحات عن الأمراض الضارّة.
    وذلك أنّ كلّ من بعد عن الإسلام وتعاليمه يسوقه الحسد والغيرة من جهة، والعداوة والإضرار بالإسلام وأهله من جهة أخرى، فيحرص على تصدير سموم مجتمعاتهم التي أفسدت شبابهم باتّباع الهوى، وبالذّات مَن هُم في مرحلة النضج الفكريّ وتحمّل المسئوليّة.
    واقعيّة الواقع المعاصر
    لو لاحظنا في واقع مجتمعنا لوجدنا أنّ الصّراع بين الحقّ والباطل مستمرّ, والغزو النّصرانيّ الصليبيّ اليوم على أشدّه
    قائم مستقرّ. منذ أن انتصر صلاح الدّين الأيّوبي على الصّليبيّين الغازين لبلاد المسلمين بالقوّة والسّلاح, أدرك النّصارى أنّ حربهم هذه وإن حقّقت انتصارات فهي وقتيّة لا تدوم.
    ولذا فكّروا في البديل الأفضل عنها وتوصّلوا بعد دراسات واجتماعات إلى ما هو أخطر من الحروب العسكريّة، وهو أن تقوم الأمم النّصرانيّة
    فرادى أوجماعا ت بالغزو الفكريّ لناشئة المسلمين؛ لأنّ الاستيلاء على الفكر والقلب أمكن من الاستيلاء على الأرض .
    فالمسلم الذي لم يلوّث فكره لا يطيق أن يرى الكافر أنّ له أمرا ونهيا في بلده، ولهذا يعمل بكلّ قوّته على إخراجه وإبعاده، ولو دفع في سبيل ذلك حياته وأغلى ثمنٍ لديه، وهذا ما حصل بعد الانتصارات الكبيرة للجيوش الصليبيّة الغازي

    وأمّا المسلم الذي تعرّض لذلك الغزو الخبيث فصار مريضَ الفكر عديمَ الإحساس، فإنّه لا يرى خطرا في وجود النّصارى أو غيرهم في
    أرضه، بل قد يرى أنّ ذلك من علامات الخير, وممّا يعين على الرقيّ والحضارة. وقد استغنى النّصارى بالغزو الفكريّ عن الغزو المادّيّ؛ لأنّه أقوى وأثبت، و عن أيّ حاجة لهم في بعث الجيوش وإنفاق الأموال مع وجود من يقوم بما يريدون من أبناء الإسلام عن قصد أو عن غير قصد وثمن، أو بلا ثمن

    ولذلك لا يلجأون إلى محاربة المسلمين علانيّة بالسّلاح والقوّة إلاّ في الحالات النّادرة الضروريّة التي تستدعي العجل، كما حصل في غزو أوغندا، وفي الأفغان حاليا، أو عندما تدعو الحاجة إليها لتثبيت المنطلقات وإقامة الركائز وإيجاد المؤسّسات التي تقوم بالحرب الفكريّة الضروس، كما حصل في مصر وسوريا والعراق وغيرها قبل الجلاء

    وأمّا الغزو اليهوديّ فهو كذلك؛ لأنّ اليهود لا يألون جهدا في إفساد المسلمين في أخلاقهم وعقائدهم. ولليهود مطامع في بلاد المسلمين وغيرها، ولهم مخطّطات أدركوا بعضها ولا زالوا يعملون جاهدين لتحقيق ما تبقى. وهم وإن حاربوا المسلمين بالقوّة والسّلاح واستولَّوا على بعض أرضهم، فإنّهم كذلك يحاربونهم في أفكارهم ومعتقداتهم، ولذلك ينشرون فيهم مبادئ ومذاهب ونِحلا باطلة ، كالماسونيّة والقاديانيّة والبهائيّة وغيرها، ويستعينون بالنّصارى وغيرهم في تحقيق مآربهم وأغراضهم

    أمّا الغزو الشّيوعيّ الإلحاديّ فهو اليوم يسري في بلاد الإسلام سريان النّار في الهشيمة ؛ نتيجة للفراغ وضعف الإيمان في الأكثريّة، وغلبةِ الجهل وقلّةِ التربيّة الصّحيحة والسّليمة. فقد استطاعت الأحزاب الشيوعيّة في روسيا والصّين وغيرهما أن تتلقّف كلّ حاقد وموتور من ضعفاء الإيمان، وتجعلهما ركائزَ في بلادهم, ينشرون الإلحاد والفكرَ الشيوعيَّ الخبيثَ ، وتعدّهم وتُمنّيهم بأعلى المناصب والمراتب، فإذا ما وقعوا تحت سيطرتها, أحكمت أمرها فيهما وأدبّت بعضَهم ببعض، وسفكت دماءَ مَن عارَض أو توقّف، حتّى أوجدت قَطعانا من بني الإنسان حربا على أممهم وأهليهم وعذابا على إخوانهم وبني قومهم، فمزّقوا بهم أمّة الإسلام، وجعلوهم جنودا للشيطان، يعاونهم في ذلك النّصارى واليهود بالتهيئة والتوطِئة أحيانا، وبالمدد والعون أحيانا أخرى. ذلك أنّهم وإن اختلفوا فيما بينهم فإنّهم جميعا يدٌ واحدة على المسلمين، يرون أنّ الإسلام هو عدوّهم اللدود، ولذا نراهم متعاونين متكاتفين بعضُهم أولياءُ بعضٍ ضدَّ المسلمين5، فالله سبحانه المستعان وهو حسبنا ونعم الوكيل

    الشّباب في واقع المجتمع

    لاشكّ في أنّ الحقّ قد أبانه الله سبحانه، وأوضح القرآن الكريم معالمه التي يسترشد بها من أنار الله عقله، وفتح على
    بصيرته. والباطل قد جعل الله على دربه أعوانا من شياطين الجنّ والإنس، يزينون للنّاس سلوكَه، ويمهَدون لهم حسنَ الاتّباع؛ لأنّه لا يحلو لهم إلاّ جذبُهم إلى حَمْأة هذا الباطل بَالغين في سبيل ذلك نهايةَ الغواية
    يقول الله جلّ وعلا لرسوله الكريم محذّرا له وأمّتِه بالتبعيّة من الرّكون لأهل الباطل، والانقياد لشبههم وأقوالهم، أو الاستماع لمعسول كلامهم؛ لِما وراء ذلك من شرور وآفات تُباعدهم عن الحقّ الذي يوجّه إليه داعي الهدى. وذلك في آيات كثيرة من كتاب الله الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه, منها قوله جلّ وعلا في سورة الأنعام الذي ضمن آياتٍ تحاور أهل الباطل وتردّ على شبهاتهم: "وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاّ يَخْرُصُون"6.

    فوقع بعضهم الذين تأثّروا بمعسول كلام هؤلاء الأعداء وانقادوا لشبههم وأقوالهم, في الجرائم والأعمال والأحوال اللاّ أخلاقيّة, فيتناولون المخدّرات والخمر حولهم فتيات يافعات مشتهات, ويجعلون لياليهم أنهارا راقصين في الأندية الليليّة حتّى الفجر, ويجعلون أنهارهم لياليهم كسالى في العمل, فيتركون ما يجب عليهم فعله. وهكذا حياتهم, يقضون أيّامَهم دون فائدة, بل فيها ضرر و مفاسد لدنياهم وأخراهم. فكيف ترى؟

    إنّ الجريمة والتفسّخ الأخلاقيّ وذوبانُ الشّخصيّة المستقلّةِ وتوسّعُ دائرة النّوازع الكثيرة التي تضرّ بالفرد والجماعة، وما يضعون لذلك من دراسة، أو يفكّرون في حلول، فإنّهم مع هذا كلّه قد عجزوا أن يجدوا لتلك المشكلة المهّمة علاجا يتغلّب على جذورها في مجتمعاتهم، وقد ضجّ من ذلك عقلاؤهم، ومن له فكرٌ يوجّهُه لإيجاد العلاج

    فكلّ ذلك –بل أكثر منه- يلمس لدى الشّباب في تلك الأمم، وسببه الرّئيس - والله أعلم - عدم الاهتمام ببناء الرّوح و معرفة ما يوجبه الدّين الصّحيح الذي جاء من عند الله، لأنّهم معرضون عنه. وقد قال الله سبحانه في سورة طه:" وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى. قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا. قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى. وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى"7 . و ذلك لأنّهم يهتمّون بالتركيز على قوام الأجسام، والاكتفاء بالمظاهر دون المخابر، ودون مخاطبة العقول بما يريحها، والقلوب بما يطمئنّها كقوله تعالى" أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوب"ُ

    وأمّا الشّباب الذين قد تفتّحت مداركهم على العلوم المختلفة، واستعدّوا لتحمّل المسئوليّة في الحياة نحو أنفسهم ومَن حولهم، ونحو دينهم وتوجيه أمّتهم،فإنّهم يجب الاهتمام بهم وإعانتهم على تخطّي الصّعاب المعترضة, فأنّ الشّباب الذين هم الجوهرة الثمينة في جيّد الأمّة، والنجمة الساطعة في سمائها، هم في أمسّ الحاجة إلى النصح لهم، والمحافظة عليهم، ورعايتهم وتوجيههم ضدّ الغزو الفكريّ الذي تتّسع دائرته بين وقت وآخر، ويُعرَض بأساليبَ متنوّعة وشبهات شتّى

    وذلك الغزو موجَّه من أعداء دينهم، الذين لا يريدون بهم خيرا، بل يثيرون الشكوك، حتّى يباعدوا بينهم وبين دينهم بالشّبهات، وقلب الحقائق . . في غزو فكريّ يجعل بين الشباب وبين تعاليم الإسلام هوة سحيقة، ويجعلون بينهم وبين العلماء وولاةِ الأمر عقبات يتجسّم أمام الشّباب تخطّيها

    فإنّ الأعداء يعلمون أنّه إذا كانت هِممُ الشّباب في العبادة والذّكر وفي معالي الأمور وفي معرفة ما يدبّره لهم الأعداء, فإنّهم لن يستطيعوا أن يصلوا إلى بلاد المسلمين؛ ولذلك نجد الهجمات قويّة لتحطيم شباب الأمّة عبر القنوات والمسارح والتمثيليات والمجلاّت والغانيات وغير ذلك ممّا تعرفون ولا تنكرون، كلّ ذلك من أجل الشباب، لا يريد الأعداء من هذه القنوات من شاخَ وشاب ولا من أصبح عمره فوق السّبعين أو الثّمانين، ولكنّهم يريدونكم أنتم أيّها الشّباب، يريدون شباب الأمّة ليستطيعوا بعد ذلك أن يحطموا أمّة الإسلام، وأن يغزوها في فكرها وفي قناعاتها وفي قوّتها وفي شبابها، فيسيطرون عليها فكريًّا قبل أن يسيطروا عليها عسكريًا

    وليس مبالغة في القول أن نقول إنّ ما تعانيه أمّتنا من هزائمَ فكريّة، واقتصاديّة، وسياسيّة، واجتماعيّة، هو نتيجةٌ حتميّة لتدمير الشخصيّة الإسلاميّة عقديّاً وثقافيّاً وسلوكيّا بسبب الغزو الفكريّ الذي يعمل على أن تصبح مسخاً تابعاً لغيره، يؤمر فيطيع ويُقاد فينقاد. ووسيلتهم في تحقيق ذلك هو الخداع والتمويه وقلب الحقائق وتشويه الوقائع عن طريق تصنيع الكلمة، وزخرفة القول، والدخول إلى المخاطب، من نقطة ضعفه، والإيقاع به، والإيحاء إليه بسلامة الفكرة، وصحّة المفهوم المزيّف الذي تحمله كلمات الغزو

    ولقد كان الغزو الفكريّ موجوداً في كلّ جيل وفي كل عصر، وله في كلّ مصر دوراً تخريبيّاً مدمّرا، إلاّ أنّ البشريّة لم تشهد قط زمناً كان فيه للغزو الفكريّ خبراء، ومنظّرون، وأجهزة ، ومؤسّسات، ووسائلُ إعلامٍ كعصرنا هذا، حيث صار للغزو الفكريّ صبغةَ الفلسفة، والنّظريّة، والمبدأ الذي يعتنقه الأتباع، ويدافعون عنه، وينقادون له

    ولذا كان أثرُه في الأمم والمجتمعات أشدَّ فتكاً من تأثير المدفع والصاروخ والطائرة. وقد ينزل إلى الميدان، ويعظم خطره، حين تخفق وسائل الحديد والنّار، في تحقيق الهدف، والوصول إلى الغاية. والخطر الذي يمثّله هذا الغزو أكثر بكثير من قتل الأفراد، بل من قتل جيل بأسره، إذ يتعدّى ذلك إلى قتل أجيال متعاقبة والقضاء عليها قبل أن تولد . فإنه داء عضال يفتك بالأمم، ويُذهب شخصيتها، ويزيل معاني الأصالة والقوّة فيها، والأمّة التي تُبتلى به لا تحسّ بما أصابها ولا تدري عنه ولذلك يصبح علاجها أمراً صعباً وإفهامها سبيل الرشد شيئاً عسيرا. فكيف ترى؟
    أين العلاج؟
    عند ما عاش للأمّة شبابها في خواء فكريّ قادهم إلى ذوبان الشخصيّة في ظلمات الغواية، والانفلات من الاطمئنان الروحيّ، فهي أمور مسيطرة عند النّاس عامّة . . اللّهمّ إلاّ وميضٌ أضاء قلوبَ بعض الحُيارى ممّن يلتمس مخرجا من هذا الضياع

    ومن هنا بعث الله نبيّنا محمّدا - صلى الله عليه وسلم – بالشّريعة الإسلاميّة السمحة لتعدّل اعوجاجَ النّفوس، وتوفّرَ المسبَّبات لتربية الرّوح التي يقوى بها الجسدُ عزيمة ً وتضحية . . ومدّها بالغذاء الذي يجعلها مستقيمة ونافعة مستقيمة في نفسها ونافعة لغيرها وصالحة ومُصلِحة لمجتمعها

    فالنصّ الشرعيّ من حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم – حيث يقول: " كلّكم راع ، وكلّكم مسئول عن رعيّته"8, يوقد جذوة في الأعماق تتحدّد معها المسئوليّة في التوجيه، والشعور بثقل الأمانة، والحرص على العلم الذي يعين على أداء هذه المسئوليّة نحو الشباب والعناية بهم

    إذ هذا النّص وأمثاله قاعدة أساسيّة يضعها المربّي والمعلّم الأوّل -صلّى الله عليه وسلم- ركيزةً في الاهتمام بالشّباب وحسن تعليمهم لأنّهم رعيّة واجبُ الاهتمام بهم عند مَن استرعاهم الله،وعماد في كلّ أمّة, وأساس نهضتها، وهم قوّتها في وجه الأعداء9,وأعظم ثروة للأمة فإنّهم مرحلة القوّة والعطاء في عمر الأمّة10

    وأشارالدكتور يوسف القرضاوي إلى أنّ القرآن قدّم نماذج رائعة للشّباب المؤمن كسيّدنا إسماعيل الذبيح، وكيف كان خُلقه مع والده إبراهيم عليهما السّلام، وكذلك سيّدنا يوسف الذي تعرّض إلى فِتن النّساء وواجه تلك الفِتن، وهو يقول: معاذَ الله، وكذلك أهل الكهف ونموذج الصبر الذي قدّموه، وقال الله عنهم: (إنّهم فتية آمنوا بربّهم وزدناهم هدى)11

    وذلك حسب التسلسل في المسئوليّة من الأبوين اللذَين تفتّحت عيونُ الشباب، منذ ولدوا في أحضانهما، ليأخذوا عنهما الدروس الأولى في مبدأ التعليم، ومن ثم يتأثرون بهما تقليدا وتوجيها, كما قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "كلّ مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهوّدانه أو ينصّرانه أو يمجّسانه، كما تلد الشاة بهيمة جمعاء، هل ترون فيها من جدعاء"
    12
    ثمّ يمتدّ الأثر مع الإخوة الأكبر فالأكبر، من الأقارب ومن يحيطون بهذا الشّاب الذين يجب عليهم الإحسان في تنمية هذه البذرة ليستقيمَ على المنهج السّليم الذي فطر الله النّاس عليه. ثمّ يمتدّ التسلسل في المسئوليّة والرعاية للشّباب ليأتي دور آخر يأخذه الشّابُّ من معلّمه في مراحل التّعليم العامّ ليصل بعد ذلك -وقد كبر جسمه ونما عقله- إلى المرحلة الجامعيّة التي نحن فيها الآن، حيث يترتّب عليه في هذه المرحلة مع نموّ العقل والجسم نموُّ الاهتمام بما حوله، واستعدادُه لأداء الأمانة وتحمّل المسئولية, فإن كان التقويم لهذا الشّابّ وحسنُ التوجيه له مع نموّ عقله، وبلوغِ رُشده صالحا ومفيدا، سهَل تحصينُ الشّباب ضدّ الغزو الفكريّ، وخاصّة في هذا الزّمان الذي أجفل فيه الشرق والغرب بخيلهم ورِجلِهم على أمّة الإسلام بشبهات متعدّدة المسارات إعلاميّا بقنواته الثلاث ؛ المسموع والمرئيّ والمقروء إلى جانب الفضائيّات والإنترنت من وسائل مع توجيه متعمِّد وغزو سافر

    وإذا كانت الوقاية الصحّيّة تقتضي التنبّه لما وراء ذلك الغزو الفكريّ، ثمّ الاهتمام بتنفيذ ما يحصن المجتمعَ بفئاته عن كلّ خلل يطرأ . . والمبادرة في كلّ وقت قبل بروز الظاهرة، حتّى يتهيّأ - بإذن الله - للعقول حَصانة ضدَّ الأوبئة الفكريّة التي يُخشى منها انتشارُها في المجتمع حتىّ تقوى لديها المناعة، ثمّ القدرة على مواجهة الشبهات بالأعمال والأجوبة المفيدة المقنعة

    فإنّ هذا العلاج يحتاج إلى تهييء نفسيّ ورَصد مادّيّ مع المتابعة بالجهود والدراسة والتخطيط. ونحن –المسلمين- مع التحدّيات الموجّهة والجهود المبذولة من أعدائنا في هذا الوقت بالذات ِلطَمس مَعالم دينِنا، يجب أن نتسلّحَ برعاية الشباب، وتهيئتهم لمواجهة مشاكلِ وقضايا حياتِهم، وإدراكِ مَكامِن الخطر. ويجب أيضا أن ترسخ العقيدة الصحيحة ومفاهيمُ الدّين السليمة عند الشباب

    والحصانة للشباب مع حسن التّوجيه تتأكّد في حثّهم على التمعّن في تعليمات الإسلام من مصدرَيه كتاب الله وسنّة نبيّه محمّد صلّى الله عليه وسلم، والتبسّط في شرح ما قد يغمض فهمه عليهم من مدرّسيهم ولدى من عنده علم ممّن يختلطون به. وما ذلك إلاّ أنّ هذين المصدرَين المهمّين، وهما وصيّة رسولِ الله صلىّ الله عليه وسلم لأمّته من بعده. ولن تضلّ بهما الأمّة، أو يجد العدوّ منفذّا للدخول على الأمّة بغزو أو شبهات ما دامت حريصة عليهما ومتمسّكة بهما، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم لأصحابه لمّا طلبوا منه الوصيّة. . فأجابهم بقوله الكريم: "... تركت فيكم أمرين لن تضلّوا ما تمسّكتم بهما؛ كتاب الله وسنّتي..."13
    الخاتمة
    إنّ الشّباب إذا تأثّروا بفلسفة الحياة هذه –يعني"الشّباب أبناء الزّمان"- سيأخذون كلّ ما جاء به الزّمان الذي يعيشون فيه من مظاهر الحياة المتنوّعة و مزاهر الدنيا الفانية. فكيف ترى؟ فنسأل الله أن يحفظنا في ديننا وأنفسنا وأولادنا وشبابنا وأجيالنا ومجتمعاتنا من كلّ فتنة و بؤس و ضير, ومن كلّ حسد وشرّ وضرر. والله المستعان و الموفّق إلى أقوم الطريق

    المصادر

    القرىن الكريم.
    "تفسير آيات الأحكام من القرآن". الشيخ محمّد علي الصابوني. المجلّد الثاني. ط: الأولى. 2004م/1425ه. دار الكتب العلمية / دار القرىن الكريم- بيروت.
    "الطبيعة" لأرسطوطاليس, ترجمة إسحاق بن حنين, تحقيق عبد الرحمن البدوي. الجزء الثاني. ص: 834. ط: الدار القومية للطباعة والنشر-القاهرة.
    "تحصين الشباب من الغزو الفكري". الدكتور / محمد بن سعد الشويعر في موسوعة الغزو الفكريّ لعليّ بن نايف الشحوت.
    موسوعة الغزو الفكري و أثاره على المسلمين (3) في المبحث "هل يتعرض العرب عامة والمملكة خاصة لهذا النوع من الغزو الفكري". للباحث في القرآن الكريم والسنّة علي بن نايف الشحود.
    "رسالة إلى الشباب". عبد الرحمن بن علوش مدخلي, في موسوعة الغزو الفكري لباحث القرآن والسنّة علي بن نايف الشحود.
    صحيح البخاري, صحيح مسلم, سنن الترمذي, سنن أبو داود, مسند أحمد بن حنبل.





    1 . نظرية Hu Shing في "العناصر الخمسة ومراحل الحياة" (Lima Unsur & Fase Kehidupan). Budi Supriyadi.
    2 . تفسير آيات الأحكام من القرآن. الشيخ محمّد علي الصابوني. المجلّد الثاني. ص: 179 . ط: الأولى. 2004م/1425ه. دار الكتب العلمية / دار القرىن الكريم- بيروت.
    3 . "الطبيعة" لأرسطوطاليس, ترجمة إسحاق بن حنين, تحقيق عبد الرحمن البدوي. الجزء الثاني. ص: 834. ط: الدار القومية للطباعة والنشر-القاهرة.
    4 . تحصين الشباب من الغزو الفكري. الدكتور / محمد بن سعد الشويعر في موسوعة الغزو الفكريّ لعليّ بن نايف الشحوت
    5 . موسوعة الغزو الفكري و أثاره على المسلمين (3) في المبحث "هل يتعرض العرب عامة والمملكة خاصة لهذا النوع من الغزو الفكري". للباحث في القرآن الكريم والسنّة علي بن نايف الشحود. وانظر إلى مجلة البحوث الإسلامية - (ج 15 / ص 278)

    6 . (الأنعام: 116)َ
    7 . (طه: 124-127)
    8 . انظر إلى صحيح البخاري في الاستقراض وأداء الديون والحجر والتفليس (2278),صحيح مسلم الإمارة (1829),سنن الترمذي الجهاد (1705),سنن أبو داود الخراج والإمارة والفيء (2928),مسند أحمد بن حنبل (2/121). ،
    9 . رسالة إلى الشباب. عبد الرحمن بن علوش مدخلي, في موسوعة الغزو الفكري لباحث القرآن والسنّة علي بن نايف الشحود.
    10 . الدكتور يوسف القرضاوي في مؤتمرالندوة العالميّة العاشر للشباب الإسلاميّ بالقاهرة تحت العنوان "الشباب وبناء المستقبل".
    11 . المرجع السابق
    12 .انظر إلى: صحيح البخاري, الجنائز (1319), صحيح مسلم, القدر (2658), سنن الترمذي, القدر (2138), سنن أبو داود, السنة (4714), مسند أحمد بن حنبل (2/275), موطأ مالك, الجنائز (569)
    13 . انظر إلى: سنن الترمذي [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (459) (3075),سنن أبو داود [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (459) (4703),مسند أحمد بن حنبل (1/45), موطأ مالك [أسبوع الفقه الإسلامي]، ص (459) (1661).

0 comments:

Leave a Reply

Monggo dikomentari ...